ذكاء الأتراك…وغباء من يحكم العراق
الكاتب : مصطفى طارق الدليمي
من يتأمل طبيعة العلاقات بين العراق وتركيا يدرك أننا أمام مشهدٍ لا يقتصر على السياسة فحسب بل هو درس في إدارة المصالح والاستراتيجيات فبينما يتحرك الأتراك بعقلٍ اقتصادي حاد ورؤية بعيدة المدى يتعامل من يحكم العراق بعشوائية وردّات فعل وكأن الدولة تُدار من خلفية الارتجال لا التخطيط
تركيا تدرك أن الماء هو نفط المستقبل وأن نهري دجلة والفرات ليسا مجرد مجاري مائية عابرة الحدود بل أوردة حياة للعراق ومصدر قوة لمن يملك زمامها ولهذا بنت أنقرة على مدى عقودٍ مشروعها المائي الضخم المعروف بـ"مشروع جنوب شرق الأناضول GAP"لتتحكم بتدفق المياه نحو العراق وسوريا وفق حساباتٍ سياسية واقتصادية دقيقة
اليوم تستخدم تركيا هذه الورقة بأقصى ذكاء ممكن "الماء مقابل التجارة"الماء مقابل الاستثمارات"الماء مقابل النفوذ السياسي"
تفتح أسواقها أمام المنتجات العراقية بحدودٍ مضبوطة وتُغري بغداد بمشاريع استثمارية وبنى تحتية مشتركة لكنها في المقابل تتحكم بالصنبور الذي يمد العراق بالحياة
المفارقة نجد أن من يدير الملف العراقي يتعامل بعقلية التسوية المؤقتة لا بعقلية الدولة التي تفاوض من موقع القوة فالعراق يمتلك أوراقاً عديدة يمكن أن توازن المعادلة مثل الورقة الاقتصادية وسوق الاستيراد العراقي الهائل الذي تعتمد عليه تركيا بنسبة عالية فضلًا عن موقع العراق الجيوسياسي الذي يشكّل ممراً أساسياً للتجارة الإقليمية لكن بدل استخدام هذه الأوراق كورقة ضغط تُقدَّم كوسائل"ترضية"في كل مفاوضة دون أي اشتراط واضح أو إستراتيجية وطنية لحماية الموارد
المياه بالنسبة للعراق ليست مسألة خدمية أو بيئية فحسب، بل قضية سيادة وأمن قومي كل انخفاض في منسوب دجلة والفرات يعني تقلّص الزراعة وتراجع الإنتاج الغذائي وارتفاع نسب البطالة والهجرة الداخلية أي ببساطة تهديد مباشر للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي
الذكاء التركي واضح
يبنون السدود لتصنع لهم نفوذاً ويستثمرون في الأسواق العراقية لتوسيع حضورهم ويستخدمون الاقتصاد كأداة سياسة ناعمة
بينما الغباء الإداري في بغداد يُصرّ على التعامل مع الملفات المصيرية بمنطق المجاملات السياسية لا بمنطق المصلحة الوطنية
أنقرة لا تُلام لأنها تبحث عن مصالحها
لكن بغداد تُلام لأنها تتنازل عن مصالحها باسم العلاقات الجيدة وتخلط بين حسن الجوار والضعف في التفاوض
العراق يمتلك كل مقومات القوة
موقع. موارد. سوق. نفط .وتاريخ
لكنه يفتقد شيئاً واحداً فقط العقل الاستراتيجي الذي يدير كل ذلك
ذكاء الأتراك ليس إعجازاً بل تخطيط واستمرارية
أما غباء من يحكم العراق فليس جهلًا بل إدمان على إدارة الأزمات دون حلول وما لم تُستعد سيادة القرار المائي والاقتصادي فإن كل صفقة جديدة مع تركيا ستكون صفقة خاسرة حتى وإن بدت لامعة في الإعلام
فالماء ليس سلعة للتبادل…إنه حياة وطن تُقايض بمستقبله


0 التعليقات